فصل: قال الخازن:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال ابن الجوزي:

سورة المنافقون:
قوله تعالى: {إذا جاءك المنافقون} يعني: عبد الله بن أُبيّ وأصحابه {قالوا نشهد إنك لرسول الله} وهاهنا تم الخبر عنهم.
ثم ابتدأ فقال تعالى: {والله يعلم إِنك لرسوله والله يشهد إن المنافقين لكاذبون} وإنما جعلهم كاذبين، لأنهم أضمروا غير ما أظهروا.
قال الفراء: إنما كذب ضميرهم.
{اتخذوا أيْمانهم جُنّة فصدُّوا عن سبيل الله} قد ذكرناه في [المجادلة: 16] قال القاضي أبو يعلى: وهذه الآية تدل على أن قول القائل: (أشهد) يمين، لأنهم قالوا: {نشهد} فجعله يمينا بقوله تعالى: {اتخذوا أيْمانهم جُنّة} وقد قال أحمد، والأوزاعي، والثوري، وأبو حنيفة: أشْهدُ، وأُقْسِمُ، وأعْزِمُ، وأحْلِفُ، كُلُّها أيْمان.
وقال الشافعي: (أُقسم) ليس بيمين.
وإنما قوله: (أقسم بالله) يمين إذا أراد اليمين.
قوله تعالى: {ذلك} أي: ذلك الكذب {بأنهم آمنوا} باللسان {ثم كفروا} في السِّرِّ {فطُبِع على قلوبهم فهم لا يفقهون} الإِيمان والقرآن {وإذا رأيتهم تعجبك أجسامهم} يعني: أن لهم أجساما ومناظر.
قال ابن عباس: كان عبد الله بن أُبيّ جسيما فصيحا، ذلْق اللسان، فإذا قال، سمع النبيُّ صلى الله عليه وسلم قوله.
وقال غيره: المعنى: تصغي إلى قولهم، فتحْسِب أنه حق {كأنهم خشب} قرأ ابن كثير، ونافع، وعاصم، وأبو عمرو، وابن عامر، وحمزة: {خُشُبٌ} بضم الخاء، والشين جميعا، وهو جمع خشبة، مثل ثمرةٍ، وثُمُرٍ.
وقرأ الكسائي: بضم الخاء، وتسكين الشين، مثل: بدنةٍ، وبُدْنٍ، وأكمةٍ، وأُكْمِ، وعن ابن كثير، وأبي عمرو، مثله.
وقرأ أبو بكر الصديق، وعروة، وابن سيرين: {خشبٌ} بفتح الخاء، والشين جميعا.
وقرأ أبو نهيك، وأبو المتوكل، وأبو عمران بفتح الخاء، وتسكين الشين، فوصفهم الله بحسن الصورة، وإبانة المنطق، ثم أعلم أنهم في ترك التفهُّم والاستبصار بمنزلة الخُشُب.
والمُسنّدة: الممالة إلى الجدار.
والمراد: أنها ليست بأشجار تثمر وتنمي، بل خُشُبٌ مُسنّدةٌ إلى حائط.
ثم عابهم بالجبن فقال تعالى: {يحسبون كل صيحة عليهم} أي: لا يسمعون صوتا إلا ظنوا أنهم قد أُتوا لما في قلوبهم من الرعب أن يكشف الله أسرارهم، وهذه مبالغة في الجبن.
وأنشدوا في هذا المعنى:
ولوْ أنّها عُصْفُورةٌ لحسِبْتها ** مُسوّمة تدعو عُبيْدا وأزْنما

أي: لو طارت عصفورة لحسبتها من جبنك خيلا تدعو هاتين القبيلتين.
قوله تعالى: {هم العدُوُّ فاحذرهم} أي: لا تأمنهم على سِرِّك، لأنهم عيون لأعدائك من الكفار {قاتلهم الله أنّى يُؤفكون} مفسر في [براءة: 30].
قوله تعالى: {وإذا قيل لهم تعالوْا يستغفر لكم رسول الله} قد بيّنّا سببه في نزول السورة {لوّوْا رؤوسهم} وقرأ نافع، والمفضل عن عاصم، ويعقوب: {لووْا} بالتخفيف.
واختار أبو عبيدة التشديد.
وقال: لأنهم فعلوا ذلك مرّة بعد مرّة.
قال مجاهد: لما قيل لعبد الله بن أُبيٍّ: تعال يستغفر لك رسول الله لوّى رأسه، قال: ماذا قلت؟ وقال مقاتل: عطفوا رؤوسهم رغبة عن الاستغفار.
وقال الفراء: حرّكوها استهزاء بالنبي وبدعائه.
قوله تعالى: {ورأيتهم يصُدُّون} أي: يعرضون عن الاستغفار.
{وهم مستكبرون} أي: متكبِّرون عن ذلك.
ثم ذكر أن استغفاره لهم لا ينفعهم.
بقوله تعالى: {سواءٌ عليهم أستغفرت لهم} وقرأ أبو جعفر: {آستغفرت} بالمدِّ.
قوله تعالى: {هم الذين يقولون لا تنفقوا على من عند رسول الله} قد بيّنّا أنه قول ابن أُبيٍّ.
{وينْفضُّوا} بمعنى: يتفرّقوا {ولله خزائن السموات والأرض} قال المفسرون: {خزائن السموات}: المطر، وخزائن الأرض: النبات.
والمعنى: أنه هو الرّزّاق لهؤلاء المهاجرين، لا أولئك، {ولكن المنافقين لا يفقهون} أي: لا يعلمون أن الله رازقهم في حال إنفاق هؤلاء عليهم {يقولون لئن رجعنا} من هذه الغزوة.
وقد تقدم ذكرها وهذا قول ابن أُبيّ {ليُخْرِجنّ الأعزُّ} يعني: نفسه، وعنى ب {الأذلِّ} رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وقرأ الحسن: {لنُخرِجنّ} بالنون مضمومة وكسر الراء {الأعزّ} بنصب الزاي والأذل منصوب على الحال بناء على جواز تعريف الحال، أو زيادة (أل) فيه، أو بتقدير (مثل).
المعنى: لنخرجنّه ذليلا على أيِّ حال ذلّ.
والكل نصبوا {الأذل} فرد الله عز وجل عليه فقال: {ولله العزّة} وهي: المنعة والقوّة {ولرسوله وللمؤمنين} بإعزاز الله ونصره إياهم {ولكن المنافقين لا يعلمون} ذلك.
قوله تعالى: {لا تلهكم} أي: لا تشغلكم.
وفي المراد بذكر الله هاهنا أربعة أقوال:
أحدها: طاعة الله في الجهاد، قاله أبو صالح عن ابن عباس.
والثاني: الصلاة المكتوبة، قاله عطاء، ومقاتل.
والثالث: الفرائض من الصلاة، وغيرها، قاله الضحاك.
والرابع: أنه على إطلاقه.
قال الزجاج: حضّهم بهذا على إدامة الذكر.
قوله تعالى: {وأنفِقوا مما رزقناكم} في هذه النفقة ثلاثة أقوال:
أحدها: أنه زكاة الأموال، قاله ابن عباس.
والثاني: أنها النفقة في الحقوق الواجبة بالمال، كالزكاة والحج، ونحو ذلك، وهذا المعنى مروي عن الضحاك.
والثالث: أنه صدقة التطوّع، ذكره الماوردي.
فعلى هذا يكون الأمر ندبا، وعلى ما قبله يكون أمر وجوب.
قوله تعالى: {من قبل أن يأتي أحدكم الموتُ} قال الزجاج: أي: من قبل أن يعاين ما يعلم منه أنه ميت.
قوله تعالى: {لولا أخرتني} أي: هلاّ أخرتني {إلى أجل قريب} يعني بذلك الاستزادة في أجله ليتصدّق ويزكّي، وهو قوله تعالى: {فأصّدّق} قال أبو عبيدة: {فأصدق} نصب، لأن كل جواب بالفاء للاستفهام منصوب.
تقول: منْ عندك فآتيك.
هلاّ فعلت كذا فأفعل كذا، ثم تبعتْها {وأكنْ من الصالحين} بغير واو.
وقال أبو عمرو: إنما هي، وأكون، فذهبت الواو من الخط.
كما يكتب أبو جاد أبجد هجاء، وهكذا يقرؤها أبو عمرو {وأكون} بالواو، ونصب النون.
والباقون يقرؤون {وأكن} بغير واو.
قال الزجاج: من قرأ {وأكون} فهو على لفظ فأصّدّق.
ومن جزم {أكنْ} فهو على موضع {فأصدق} لأن المعنى: إن أخرتني أصدق وأكن.
وروى أبو صالح عن ابن عباس {فأصّدّق} أي: أُزكي مالي {وأكنْ من الصالحين} أي: أحُجّ مع المؤمنين، وقال في قوله تعالى: {والله خبير بما تعملون} والمعنى: بما تعملون من التكذيب بالصدقة.
قال مقاتل: يعني: المنافقين.
وروى الضحاك عن ابن عباس، ما من أحد يموت، وقد كان له مال لم يزكّه، وأطاق الحج فلم يحج، إلا سأل الله الرجعة عند الموت، فقالوا له: إنما يسأل الرجعة الكفار، فقال: أنا أتلو عليكم به قرآنا، ثم قرأ هذه الآية. اهـ.

.قال الخازن:

قوله: {إذا جاءك المنافقون} يعني عبد الله بن أبي سلول وأصحابه قالوا {نشهد إنك لرسول الله} وتم الخبر عنهم ثم ابتدأ فقال تعالى: {والله يعلم إنك لرسوله} أي هو الذي أرسلك فهو عالم بك {والله يشهد إن المنافقين لكاذبون} يعني في قولهم نشهد إنك لرسول الله لأنهم أضمروا خلاف ما أظهروا وذلك لأن حقيقة الإيمان أن يواطئ اللسان القلب وكذلك الكلام فمن أخبر عن شيء واعتقد خلافه أو أضمر خلاف ما أظهر فهو كاذب ألا ترى أنهم كانوا يقولون بألسنتهم نشهد إنك لرسول الله وسماه كذبا لأن قولهم خالف اعتقادهم {اتخذوا أيمانهم جنة} أي سترة يسترون بها من القتل ومعنى أيمانهم ما أخبر الله عنهم من حلفهم إنهم لمنكم وقولهم نشهد إنك لرسول الله {فصدوا عن سبيل الله} أي أعرضوا بأنفسهم عن طاعة الله وطاعة رسوله وقيل منعوا الناس عن الجهاد وعن الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم {إنهم ساء ما كانوا يعملون} يعني حيث آثروا الكفر على الإيمان {ذلك بأنهم آمنوا} أي في الظاهر وذلك إذا رأوا المؤمنين أقروا بالإيمان {ثم كفروا} أي في السر وذلك إذا خلوا مع المشركين وفيه تأكيد لقوله: {والله يشهد إنهم لكاذبون} {فطبع على قلوبهم} أي بالكفر {فهم لا يفقهون} أي الإيمان وقيل لا يتدبرون القرآن.
{وإذا رأيتهم} يعني المنافقين مثل عبد الله بن أبي ابن سلول {تعجبك أجسامهم} يعني أن لهم أجساما ومناظر حسنة {وإن يقولوا تسمع لقولهم} أي فتحسب أنه صدق قال ابن عباس كان عبد الله بن أبي ابن سلول جسيما فصيحا ذلق اللسان فإذا قال سمع النبي صلى الله عليه وسلم قوله: {كأنهم خشب مسندة} أي أشباح بلا أرواح وأجسام بلا أحلام شبههم بالخشب المسندة إلى جدر وليست بأشجار مثمرة ينتفع بها {يحسبون كل صيحة عليهم} يعني أنهم لا يسمعون صوتا في العسكر بأن ينادي مناد أو تنفلت دابة أو تنشد ضالة إلا ظنوا من خبثهم وسوء ظنهم أنهم يرادون بذلك وظنوا أنهم قد أتوا لما في قلوبهم من الرعب وقيل إنهم على خوف ووجل من أن ينزل فيهم أمر يهتك أستارهم ويبيح دماءهم وتم الكلام عند قوله: {عليهم} ثم ابتدأ فقال تعالى: {هم العدو فاحذرهم} أي لا تأمنهم فإنهم وإن كانوا معك ويظهرون تصديقك أعداء لك فاحذرهم ولا تأمنهم على سرك لأنهم عيون لأعدائك من الكفار ينقلون إليهم أسرارك {قاتلهم الله} أي لعنهم الله {أنى يؤفكون} أي يصرفون عن الحق.
قوله تعالى: {وإذا قيل لهم تعالوا يستغفر لكم رسول الله لووا رؤوسهم} أي أمالوها وأعرضوا بوجوههم رغبة عن الاستغفار {ورأيتهم يصدون} أي يعرضون عما دعوا إليه {وهم مستكبرون} أي عن استغفار رسول الله صلى الله عليه وسلم لهم {سواء عليهم أستغفرت لهم} أي يا محمد {أم لم تستغفر لهم لن يغفر الله لهم إن الله لا يهدي القوم الفاسقين}.
ذكر القصة في سبب نزول هذه الآية:
قال محمد بن إسحاق وغيره من أصحاب السير إن رسول الله صلى الله عليه وسلم بلغه أن بني المصطلق يجتمعون لحربه وقائدهم الحارث بن أبي ضرار وهو أبو جويرية زوج النبي صلى الله عليه وسلم فلما سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك خرج إليهم حتى لقيهم على ماء من مياههم يقال له المريسيع من ناحية قديد إلى الساحل فتزاحم الناس واقتتلوا فهزم الله تعالى بني المصطلق وأمكن منهم وقيل من قتل منهم ونقل رسول الله صلى الله عليه وسلم أبناءهم ونساءهم وأموالهم فأفاءها عليهم فبينما الناس على ذلك الماء إذ وردت واردة الناس ومع عمر بن الخطاب أجير له من بني غفار يقال له جهجاه بن سعيد الغفاري يقود له فرسه فازدحم جهجاه وسنان بن وبر الجهني حليف بني عوف بن الخزرج على الماء فاقتتلا فصرخ الجهني يا معشر الأنصار وصرخ الغفاري يا معشر المهاجرين وأعان جهجاها رجل من المهاجرين يقال له جعال وكان فقيرا فقال عبد الله بن أبي الجعال وإنك لهناك فقال جعال وما يمنعني أن أفعل ذلك فغضب عبد الله بن أبي وعنده رهط من قومه فيهم زيد بن أرقم وهو غلام حديث السن فقال عبد الله بن أبي افعلوها قد نافرونا وكاثرنا في بلادنا والله ما مثلنا زائدة ومثلهم إلا كما قال القائل سمن كلبك يأكلك أما والله لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل ثم أقبل على من حضر من قومه فقال هذا ما فعلتم بأنفسكم أحللتموهم بلادكم وقاسمتموهم أموالكم أما والله لو أمسكتم عن جعال وذويه فضل الطعام لم يركبوا رقابكم ولتحولوا إلى غير بلادكم فلا تنفقوا عليهم حتى ينفضوا من حول محمد فقال زيد بن أرقم أنت والله الذليل القليل المبغض في قومك ومحمد صلى الله عليه وسلم في عز من الرحمن ومودة من المسلمين فقال عبد الله بن أبي اسكت لقد كنت ألعب فمشى زيد بن أرقم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وذلك بعد فراغه من الغزو فأخبره الخبر وعنده عمر بن الخطاب فقال دعني أضرب عنقه يا رسول الله قال «كيف يا عمر إذا تحدث الناس أن محمدا يقتل أصحابه ولكن أذن بالرحيل» وذلك في ساعة لم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم يرتحل فيها فارتحل الناس وأرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى عبد الله بن أبي فأتاه فقال «أنت صاحب هذا الكلام الذي بلغني» فقال عبد الله بن أبي والذي أنزل عليك الكتاب ما قلت شيئا من ذلك وإن زيدا لكاذب وكان عبد الله في قومه شريفا عظيما فقال من حضر من الأنصار من أصحابه يا رسول الله عسى أن يكون الغلام قد وهم في حديثه ولم يحفظ ما قاله فعذره النبي صلى الله عليه وسلم وفشت الملامة لزيد في الأنصار وكذبوه وقال له عمه وكان زيد معه ما أردت إلى أن كذبك رسول الله صلى الله عليه وسلم والناس ومقتوك وكان زيد يساير النبي صلى الله عليه وسلم فاستحيا بعد ذلك أن يدنو من النبي صلى الله عليه وسلم فلما استقل رسول الله صلى الله عليه وسلم وسار لقيه أسيد بن حضير فحياه بتحية النبوة وسلم عليه ثم قال يا رسول الله صلى الله عليه وسلم لقد رحت في ساعة منكرة ما كنت تروح فيها فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم «أو ما بلغك ما قال صاحبك عبد الله بن أبي» فقال أسيد وما قال؟ قال «يزعم أنه إن رجع إلى المدينة أخرج الأعز منها الأذل» فقال أسيد أنت والله يا رسول الله تخرجه هو والله الذليل وأنت والله العزيز ثم قال يا رسول الله ارفق به فوالله لقد جاء الله بك وإن قومه لينظمون له الخرز ليتوجوه فإنه ليرى أنك قد سلبته ملكا وبلغ عبد الله بن عبد الله بن أبي ما كان من أبيه فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال يا رسول الله إنه بلغني أنك تريد قتل عبد الله بن أبي لما بلغك عنه فإن كنت فاعلا فمرني فأنا أحمل إليك رأسه فوالله لقد علمت الخزرج ما كان بها رجل أبر بوالديه مني وإني أخشى أن تأمر به غيري فيقتله فلا تدعني نفسي أن أنظر إلى قاتل عبد الله بن أبي يمشي على الأرض فأقتله فأقتل مؤمنا بكافر فأدخل النار فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «بل نرفق به ونحسن صحبته ما بقي معنا» قالوا وسار رسول الله صلى الله عليه وسلم يومه ذلك حتى أمسى وليلته حتى أصبح وصدر يومه حتى آذتهم الشمس فنزل بالناس فلم يكن إلا أن وجدوا مس الأرض فوقعوا نياما وإنما فعل ذلك ليشتغل الناس عن حديث عبد الله بن أبي الذي كان منه بالأمس ثم راح بالناس حتى نزل على ماء بالحجاز فويق البقيع يقال لها نقعاء فهاجت ريح شديدة آذتهم وتخوفوها وضلت ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم وذلك بالليل فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «لا تخافوا فإنما هبت لموت عظيم من عظماء الكفار توفي بالمدينة» فقيل من هو؟ قال «رفاعة بن زيد بن التابوت» فقال رجل من المنافقين كيف يزعم أنه يعلم الغيب ولا يعلم بمكان ناقته ألا يخبره الذي يأتيه بالوحي فأتاه جبريل فأخبره بقول المنافق وبمكان ناقته فأخبر بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه وقال «ما أزعم أني أعلم الغيب ولا أعلمه ولكن الله أخبرني بقول المنافق وبمكان ناقتي هي في الشعب وقد تعلق زمامها بشجرة» فخرجوا يسعون قبل الشعب فإذا هي كما قال فجاؤوا بها فآمن ذلك المنافق وحسن إيمانه فلما قدموا المدينة وجدوا رفاعة بن زيد بن التابوت قد مات في ذلك اليوم وكان من عظماء اليهود وكهفا للمنافقين فلما وا في رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة قال زيد بن أرقم جلست في البيت لما بي من الهم والحياء فأنزل الله سورة المنافقين في تصديق زيد بن أرقم وتكذيب عبد الله بن أبي فلما نزلت أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بإذن زيد وقال «يا زيد إن الله قد صدقك وأو في بإذنك» عن زيد بن أرقم قال «خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر أصاب الناس فيه شدة فقال عبد الله بن أبي لا تنفقوا عليّ من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى ينفضوا من حوله وقال لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل قال فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبرته بذلك فأرسل إلى عبد الله بن أبي فسأله فاجتهد يمينه ما فعل فقالوا كذب زيد رسول الله صلى الله عليه وسلم قال فوقع في نفسي مما قالوه شدة حتى أنزل الله بتصديقي إذا جاءك المنافقون قال ثم دعاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ليستغفر لم قال فلووا رؤوسهم وقوله: {كأنهم خشب مسندة} قال كانوا رجالا أجمل شيء».
عن جابر قال: {هم الذين يقولون لا تنفقوا علي من عند رسول الله حتى ينفضوا} أي يتفرقوا عنه {ولله خزائن السموات والأرض} يعني بيده مفاتيح الرزق فلا يعطي أحد أحدا شيئا إلا بإذنه ولا يمنعه إلا بمشيئته {ولكن المنافقين لا يفقهون} يعني أن أمر الله إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون {يقولون لئن رجعنا إلى المدينة} يعني من غزوة بني المصطلق {ليخرجن الأعز منها الأذل} فرد الله عليهم بقوله: {ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين} فعزة الله تعالى قهره وغلبته على من دونه وعزة رسوله صلى الله عليه وسلم إظهار دينه على الأديان كلها وعزة المؤمنين نصر الله إياهم على أعدائهم {ولكن المنافقين لا يعلمون} أي ذلك لو علموا ما قالوا هذه المقالة قال أصحاب السير فلما نزلت هذه الآية في عبد الله بن أبي ابن سلول لم يلبث إلا أياما قلائل حتى اشتكى ومات على نفاقه.
قوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا لا تلهكم} أي لا تشغلكم {أموالكم ولا أولادكم عن ذكر الله} يعني عن الصلوات الخمس والمعنى لا تشغلكم أموالكم ولا أولادكم كما شغلت المنافقين عن ذكر الله {ومن يفعل ذلك} أي ومن شغله ماله وولده عن ذكر الله {فأولئك هم الخاسرون} أي في تجارتهم حيث آثروا الفاني على الباقي.
{وأنفقوا مما رزقناكم} قال ابن عباس يريد زكاة الأموال {من قبل أن يأتي أحدكم الموت} أي دلائل الموت ومقدماته وعلاماته فيسأل الرجعة {فيقول رب لولا أخرتني} أي هلا أمهلتني وقيل لو أخرت أجلي {إلى أجل قريب فأصدق} أي فأزكي مالي {وأكن} وقرئ وأكون {من الصالحين} أي المؤمنين وقيل نزلت هذه الآية في المنافقين ويدل على هذا أن المؤمن لا يسأل الرجعة وقيل نزلت في المؤمنين والمراد بالصلاح هنا الحج قال ابن عباس: ما من أحد يموت وكان له مال ولم يؤد زكاته أو أطاق الحج ولم يحج إلا سأل الرجعة عند الموت وقرأ هذه الآية {وأن من الصالحين} أي أحج وأزكي {ولن يؤخر الله نفسا إذا جاء أجلها} يعني أنه تعالى لا يؤخر من حضر أجله وانقضت مدته {والله خبير بما تعملون} يعني أنه لو رد إلى الدنيا وأجيب إلى ما سأل ما حج وما زكى وقيل هو خطاب شائع لكل عامل عملا من خير أو شر، والله سبحانه وتعالى أعلم. اهـ.